الديمقراطية...إن المعنى العام لهذه الكلمة منذ طرحها "بركليس" القيصر الأثيني في خطابه لشعب أثينا منذ 5 قرون قبل الميلاد. كانت تعني – كما هو شائع ومعروف- حكم الشعب نفسه بنفسه, وبذلك يمكن القول بأن الديمقراطية الأثينية إذا كانت تعني "حكم الشعب", فإن كلمة "الشعب" تعني الوطنيين الأحرار...أما فيما يتعلق بالمعنى الشامل للديمقراطية كمفهوم سياسي يفيد مجمله "سلطة الإنسان", وهذا يراه المفكر "مالك بن نبي"( 1905 -1973 م ) مناقض لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله في هذا النظام أو غيره, كما هو مشار إليه في مؤلفه " تأملات ".
مما يدعونا إلى التساؤل: عن أي القيم في ثقافتنا العربية الإسلامية يمكن أن نقارب بينها وبين الديمقراطية بمفهومها المعاصر؟ والبحث عن مكانة الديمقراطية في تراثنا العربي الإسلامي في الماضي والحاضر, هذا وإن كانت لها مكانة ما؟
وهذا ما سنسترسل في الحديث عنه من خلال رؤى "مال بن نبي" النقدية للفكر السياسي الغربي الحديث من خلال مفاهيمه السياسية التي منها الديمقراطية مقصودنا في هذا المقال.
في البداية يعتبر هذا المصطلح – الديمقراطية- من المصطلحات اليتيمة في قاموس المصطلح العربي, فهو مصطلح يمكن القول إنه أحاكت خيوطه الأولى الفلسفة اليونانية الأفلاطونية و الأرسطية بعيدا عن تأثير المعتقد أوالدين, كما لا يخفى علينا أن الديمقراطية عند " أفلاطون" (429 – 347 ق م) لم تكن هدفا في ذاتها ....فالهدف عنده هو تحقيق العدالة في المجتمع, هذا الهدف الذي ظل في الأخير حبيس المثالية؛ وعرف عقم واقعي إن لم نقل نسبي أحيانا, إذ نجد هذا المفهوم قد استنبطه من الفلسفة الغربية إذ لا يقيد سلطة الأمة أو الشعب شريعة ولا دين, ولا تلتزم بأي فقانون أخلاقي, والأدل على هذا شعار الثورة الفرنسية في كفاحها ضد الكنيسة ( لا نريد ربا ولا سيدا ) كما هو مشار إليه في مؤلف " مالك بن نبي " " تأملات "
وفي المقابل نشير إلى فكرة الديمقراطية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي من خلال إشكالية الإمامة أو الخلافة, حيث نجد إن " أبو نصر الفارابي" ( 872 – 950 م ) ترجم لفظ الديمقراطية بهذا المعنى اليوناني الأصلي للكلمة بـ " الجماعية " و " نظام الحكم الديمقراطي" بـ " المدينة الجماعية " فأصبح "الحكم الجماعي " مقابل " لحكم الشعب نفسه بنفسه ", وهذا التصور كان غالب عن التفكير السياسي في الإسلام, بمعنى كان من أللا مفكر فيه؛ّ وإن كان قرار إنها لا تتحقق إلا في" الجمهورية الفاضلة ".
وهذا هو المفهوم الذي ظل سائدا إلى غاية بداية القرن العشرين, ومع " مالك بن نبي" تغير هذا المفهوم ترادفا مع ما حدده الفيلسوف "جيل دلوز" ( - 1995 م) وزميله " فليكس غتاري" في مؤلفه " ما هي الفلسفة؟ "؛ الذي أصبح يعني عامة إنشاء المفاهيم أو الإبداع, فأصبح المفهوم بطبيعة الحال معرفة لكنه معرفة ذاتيه, وهو ما عبر عنه "المفكر والفيلسوف المغربي " طه عبد الرحمن " بـ " العلاقة التخاصية " المربوطة بالأنفهام التداولي , " فمالك بن نبي " في تأثليته هذا المفهوم المنطلق فيه من الفكر السياسي الغربي الحديث ربطه بالمجال التداولي الإسلامي من ( معرفة ولغة ودين ...). فرأى أنه يعني في مجمله " سلطة الإنسان على الإنسان " المطلقة, وهذا مناقض تماما لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله في النظام أو غيره؛ فالديمقراطية بمفهومها الحديث عند الغرب مثلا : تعني الحرب من أجل سيادة شعب عن غيره, أو الاستيلاء على سوق, أو استعمار مكان ما, أو احتكار منابع للنفط, وفي سبيل ذلك تسفك دماء لا تنتهي وتزهق أرواح بشرية لا تعد ولا تحصى كلها من أجل هذا.
ولذا نجد " مالك بن نبي " في نظره للديمقراطية بهذا المفهوم قد حدد لها إيجابيه مطلوبة هي أن تكون نافية للعبودية والاستعباد, وأن لا تكون ترمز للحد الوسط بين طرفين كل منهما يمثل نقيض للآخر , كما لا ينبغي أن لا تحقق النقيض المعبر عن نفسه وشعوره كعبد أو مستعبد ", وبناء على هذا حدد أيضا شروطا ذاتية: تتمثل في الشعور الديمقراطي نحو الأنا والآخرين, و الشروط الموضوعية: تتمثل في الحقوق والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية , وهذا الشروط تعتبر أساس نقد الديمقراطية الغربية ( الرأسمالية ) أو الديمقراطية الشرقية ( الاشتراكية ) .
و"مالك بن نبي " في بديله السياسي الإسلامي لهذا المفهوم يرتكز على نقطة العلاقة بين الدين والأخلاق, إذ يرى أن العمل السياسي الناجح على المستوى الإقليمي, هو العمل المنظم الذي يمكن من خلاله تحقيق التجانس بين عمل الدولة وعمل الإنسانية.
وبهذا تكون الديمقراطية كمفهوم أقرب إلى الثقافة العربية الإسلامية, إضافة إلى كونها تقوم على غاية هي " العدل ", إذن كما هو مطلوب في جمهورية " أفلاطون ", وما هو مطلوب في الفلسفة السياسية المعاصرة هو في نهاية المطاف العدالة. ويمكن القول نفسه في الثقافة العربية الإسلامية, حيث يحتل مفهوم " العدل" مكانه سامية في سلم القيم, بل هو إحدى القيمتين الرئيسيتين في نظام القيم عند " المعتزلة " الذين أطلقوا على أنفسهم " أهل العدل والتوحيد ".