العيد وزكاة الفطر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً، والحمد لله الذي سهل لعباده طرق العبادة ويسر، وتابع لهم مواسم العبادة لتزدان أوقاتهم بالطاعة وتُعمر، فما انتهى شهر الصيام إلا بدخول أشهر حج بيت الله المطهر، أحمده على صفاته الكاملة وأشكره على آلاءه السابغة التي لا تحصر، وأقر بوحدانيته وتقديره وتدبيره فهو المتفرد بالخلق والتدبير وكل شيء عنده بأجل مقدر.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله - تعالى - واشكروا نعمته عليكم بهذا العيد السعيد، فإنه اليوم الذي توج الله به شهر الصيام، وافتتح به أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، وهو أحد الأعياد الشرعية الثلاثة، وثانيها عيد الأضحى، وثالثها عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة، وليس في الإسلام سواها عيد، ليس في الإسلام عيد لمولد نبي، ولا لمولد زعيم، ولا لانتصار على عدو، ولا لقيام دولة، ليس في الإسلام سوى هذه الأعياد الثلاثة: عيد الأضحى، وعيد الفطر، وعيد الأسبوع، الله أكبر والله أكبر ولا إله إلا الله، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، في هذا اليوم تخرجون قبل الصلاة زكاة الفطر تقرباً إلى الله - تعالى - وأداء للفريضة، فقد فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر و"أمر أن تخرج قبل صلاة العيد، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة ولو في يوم العيد فهي صدقة من الصدقات"(1)، لا تجزئ عن فريضة الزكاة إلا أن يكون الإنسان معذوراً، فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين؛ "تطهيراً لصيامهم وطعيمةً لمساكينهم"(2)، فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "على الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد"(3) "فرضها - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام الآدميين من تمرٍ أو برٍ أو رزٍ أو غيرها"(4)، فلا تخرج من الدراهم ولا من الثياب والأمتعة، وإنما تخرج مما فرضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام الآدميين خاصة، فمن أخرجها من غيره فهي مردودة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(5).
أيها المسلمون، في هذا اليوم تخرجون إلى مصلى العيد معظمين لربكم بأفئدتكم وألسنتكم، تكبرون الله - عز وجل - وتوحدونه وتحمدونه على ما هداكم ويسر لكم من نعمة الصيام والقيام، وغيرهما من الطاعات، في هذا اليوم تؤدون صلاة العيد تعظيماً لله - عز وجل -، وإقامةً لذكره، وبرهاناً على ما في قلوبكم من محبته وشكره، تؤدونها أيها المسلمون، في الصحراء تعظيماً إظهاراً لشعائر الله، واتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تنتظرون جوائز ربكم، وتحسنون الظن أن يتقبل منكم.
أيها المسلمون، في هذا اليوم ودعتم بالأمس شهر رمضان، وانقسم الناس فيه إلى قسمين:
قسم فرح بالتخلص منه؛ لأنه ثقيل عليه متعب لنفسه وبدنه، فهو يريد أن يتخلص من رمضان ويفارقه.
وقسم آخر فرح بفطره، فرح بتخلصه به من الذنوب، "فإن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(6)، "ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(7)، "ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(8).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا للإسلام، وعلى ما من به علينا من إتمام الصيام والقيام، والحمد لله على ما أنعم به علينا من دين الإسلام، ذلك الدين القيم الذي أكمله الله - تعالى - لنا عقيدة ومنهجاً، ثم نحمده أن هدانا له، وقد أضل عنه كثيراً.
أيها المسلمون، إن دين الإسلام هو الذي ارتضاه الله لنفسه، وفرضه على عباده إلى يوم القيامة، قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام﴾ [آل عمران: 19]، وقال - جل ذكره -: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]؛ ولذلك ختم الله بهذا الدين الأديان كلها بما بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده ولا دين سوى ما جاء به، وفيه إصلاح الخلق والعز والتمكين في كل زمان ومكان، فمن تمسك بهذا الإسلام عقيدة ومنهجاً نال العزة والرفعة في الدنيا والآخرة، واسمعوا قول الله - عز جل - وهو سبحانه لا يخلف الميعاد: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55]، ويقول الله - تعالى -: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحجر: 40-41].
أيها المسلمون، إن ذلك لوعد حق مثلما أنكم تنطقون، ولقد كان ذلك في سلف هذه الأمة حين تمسكوا بهذا الدين فصاروا قادة العالم، بالعلم، والعقيدة الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والحضارة الراقية، وفتحوا بدينهم وأخلاقهم مشارق الأرض ومغاربها، فلو عدنا نحن المسلمين اليوم إلى ما كان عليه سلفنا بالأمس لحصل لنا من العز والتمكين ما حصل لهم.
أيها المسلمون، لقد فهم أعداء الإسلام ذلك، فهموه منذ ظهر الإسلام "فها هو هرقل ملك الروم قال لأبي سفيان حين سأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يدعو إليه، قال له هرقل وهو ملك الروم قال: إن كان ما تقول صدقاً فسيملك موضع قدمي هاتين"(9)، ولقد كان صدقاً، ولقد ملكت الأمة الإسلامية ملكت ما تحت قدمي هرقل وكسرى، وسادوا العالم، وفي هذا القرآن قال أحد رؤساء الوزارة البريطانية: مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان، وقال أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية: إن الخطر الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي، ومن أجل خوف أعداء الإسلام من ظهور المسلمين عليهم حاول أعداء المسلمين والإسلام بكل ما أوتوا من قوة بالمكر والخديعة، حاولوا أن يقضوا على الإسلام بالغزو العسكري المسلح، وبالغزو الفكري والخلقي، فاحتلوا كثيراً من بلاد المسلمين في مصر والعراق والشام، وأفسدوا عقائد كثير منهم وأخلاقهم، وغزوا كثيراً من المسلمين ولا سيما ذووا الضعف في الدين والبصيرة، حتى خففوا الدين في نفوسهم وأخرجوهم من الإسلام، أو كادوا لولا أن من الله على هذه البلاد بالتخلص من استعمارهم، لقد أدخل أعداء الإسلام على المسلمين أنواعاً من اللهو واللعب؛ ليصرفوهم عن دينهم وعن الجد في أمورهم، زينوا في قلوبهم الشهوات وأدخلوا في عقولهم الشبهات، وثقلوا عليهم الصلوات والعبادات، بل صوروا لهم الصلاة والعبادة في الأمور التقليدية البالية التي لا مكان لها في هذا العصر، فانخدع كثير من الناس بهذه الدعاية الباطلة، واستهانوا بشرائع دينهم، وأنكروا عقائده وصاروا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً، يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات، كما قال الله - عز وجل -: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [مريم: 59-60].
أيها المسلمون، إن هذه الدعاية الباطلة وهذا الترويج الكاذب إنه خدع كثيراً من الناس ولا سيما الشباب الذين يذهبون إلى بلاد الكفر، والذين يشاهدون ما يشاهدون من أنواع الفسق والفجور، حتى هان عليهم الدين، وهان عليه ما كان أسلافهم الصالحة.
أيها المسلمون، إن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، كما قال الله - عز وجل -: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11]، ومفهوم الآية الكريمة: أنهم إن لم يفعلوا ذلك فليسوا إخواناً لنا في الدين، والإخوة في الدين لا تنتفي إلا بالكفر؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"(10) وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"(11) و"حظ": نكرة في سياق النفي العام فلا حظ من قليل أو كثير في الإسلام لمن ترك الصلاة، هذا ما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وإذا كفر المسلم بعد إسلامه صار مرتداً يجب قتله إلا أن يتوب.
ويترتب على ردته أحكام دنيوية، وأحكام أخروية:
أما الأحكام الدنيوية: فإن من كفر فإن زوجته ينفسخ نكاحها منه ولا تحل له حتى يرجع إلى الإسلام ويصلي، فلا يحل له النظر إلى زوجته، ولا مباشرتها، ولا جماعها، ولا يحل لنا أن نأكل ما ذبحه، فتصوروا أيها المسلمون، يذبح اليهودي أو النصراني الذبيحة فنأكلها؛ لقول الله - تعالى -: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: 5]، ويذبح تارك الصلاة الذبيحة فلا نأكلها؛ لأنها ميتة فلا تحل، أيها المسلمون، وإذا مات تارك الصلاة على تركها فإنه لا يصلى عليه، ولا يدعى له، ولا يدفن مع المسلمين، ولا يحل لأحد من أقاربه أن يرث شيئاً من ماله، بل يكون ماله في بيت مال المسلمين للدولة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"(12)، هذه أحكام الدنيا في تارك الصلاة.
أما أحكام الآخرة: فإن تارك الصلاة كما جاء به الحديث "يحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف"(ث1) رؤساء الكفر، ويخلد في النار، وهذه الأحكام كلها ترتفع إذا رجع الإنسان إلى الإسلام وتاب إلى ربه وأقام الصلاة.
أيها المسلمون، كنا نتكلم في كل يوم عيد بما يناسب من المشاكل الاجتماعية، وإننا قبل سنتين تكلمنا عن حكم تارك الصلاة، وتكلمنا – أيضاً - عن هؤلاء الذين يجلبون اليهود والنصارى والوثنيين إلى جزيرة العرب، وبينا أن هؤلاء مخالفون؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"(13)، هكذا قال - صلى الله عليه وسلم - عهد به إلى أمته، وهو في مرض موته، وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب"(14) فجزيرة العرب أيها المسلمون ليست كغيرها من بلدان الإسلام؛ لأنها مهد الإسلام، ومنها خرج الإسلام، وإليها يعود الإسلام، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الدين ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها"(15) وإني أقرع على رؤوس هؤلاء، أقرع عليهم، وأقرع رؤوسهم - أيضاً - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"(16)، وإنني أقول لهم إن الله سائلكم يوم القيامة إذا وقفتم بين يديه ولم يكن عندكم مال ينجيكم، ولا ولد يفديكم، إنكم مسؤولون عن هذا الحديث الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مرض موته في آخر حياته يعهد به إلى أمته - صلى الله عليه وسلم -، فأعدوا لأنفسكم جواباً، وأعدوا لأقدامكم مرتقىً، وإلا فما أدري ماذا يكون حالكم، أما المشكلة التي هي موضوع بحثنا هذا العام فإنها مشكلة الزواج، وهي مشكلة اجتماعية عامة، وسنتناولها من وجوه أربعة:
أولاً: من جهة ارتفاع المهور هذا الارتفاع الفاحش الذي هو خلاف شريعة الله، فإن المشروع تقليل المهور، وإن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أيها المواطنون، أتريدون أن يخرج شبابكم إلى بلاد آخر يتزوجون منها وحينئذٍ تحدث مشاكل ومشاكل، رويدكم أيها الناس، إن ارتفاع المهور خلاف السنة، وإن فيه مشاكل ومضار عديدة؛ ولهذا أدعوكم وأبدأ أولاً بولاة الأمور من الأمراء، والعلماء، والوجهاء، والأعيان، أن يكونوا قدوة في هذا الأمر حتى يحلوا هذه المشكلة العظيمة.
أما الأمر الثاني: فهو عزوف كثير من الشباب والشابات عن الزواج خصوصاً المتعلمين منهم، وهذا جهل وخلاف ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج"(17)إذاً: ألا يجدر بكم أيها الشباب من ذكور وإناث، ألا يجدر بكم أن تقولوا سمعنا وأطعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أتريدون أن تذهبوا شبابكم بدون زواج حتى إذا بردت الشهوة فيكم، وكبرت سنكم، ذهبتم تطلبون الزواج بعد فوات الأوان.
أما الأمر الثالث: فهو الإسراف في الولائم ذلك الإسراف الذي هو وقوع فيما نهى الله عنه، فإن الله يقول: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
أيها الناس، ما هذا الإسراف الذي نسمع به والذي قد نشاهده نحن في هذه الولائم؟ إن هذه الأطعمة وإن هذه اللحوم إنها ربما تلقى في المزابل، وربما تلقى في البراري، مال ضائع، ووقوع في الإسراف الذي نهى الله عنه، فيا أيها الأغنياء، تذكروا حال الفقر السابقة، وتذكروا حال الفقراء في بلاد المسلمين، ولا تذهبوا أموالكم فيما ينهى الله عنه ورسوله، اتقوا الله - تعالى - في الإسراف، واحذروه، فإن الله - تعالى – يقول: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
أما الأمر الرابع: - وما أدراك ما الأمر الرابع -، فهو اتخاذ بعض الأولياء مولياتهم بمنزلة السلعة يزوجونهن حسب رغبتهم، لا حسب ما تقتضيه الأمانة ومصلحتهن، إن بعض الناس يحتكر بناته وأخواته ومن له ولاية عليها من النساء حتى لا يزوجها إلا إذا دفع له مال يرضيه، وأنه لا يحل للأب ولا لغيره أن يشترط لنفسه شيئاً من مهر المرأة؛ لأن المهر لها، كما قال الله - عز وجل -: ﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: 4]، فأضاف الصدقات وهي المهور إلى الزوجات لا إلى أوليائهن، فلا يحل للأب ولا للأم من حضر وبدو أن يشترط لنفسه شيئاً من مهر المرأة، فإن ذلك حرام عليه، ولكن المرأة إذا ملكته فلها أن تكرم به أو منه من شاءت من أبيها أو أخيها أو أحداً من أقاربها.
أيها المسلمون، وإن بعض الناس يحتكر ابنته يخطبها الكفء ولكنه يمنع، هذه صغيرة وهذه قد فاتت وهو كاذب في هذا، ولكنه قد لا يرضى الرجل الخاطب لغرض شخصي بينه وبينه وهذا حرام عليه، ولا يحل له.
أيها المسلمون، إني أقص عليكم قصة ولو أطلت عليكم فالأمر مهم، سمعت أن أحداً من الناس عنده ثلاث بنات، وكانت الكبيرة منهن تخطب، ولكنه يمنعها فأراد الله - عز وجل - فمرضت الكبيرة وحضرها الموت، فكانت في سياق الموت توصي من حولها وتقول: قولوا لأبي حسبي الله عليك حيث منعني شبابي ومنعني شهوتي، وإني واقفة بين يدي الله أنا وهو فليعد لنفسه الجواب أو كما قالت.
أفلا تخافون أن تكون هذه عاقبة بناتكم إذا منعتموهن، فاتقوا الله عباد الله، ولا يحل للرجل كذلك أن يجبر ابنته على زواج من لا تريد النكاح به؛ لأن ذلك محرم عليه سواء كان الأب أو غيره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح البكر حتى تستأذن"(18) وفي رواية لمسلم: "والبكر يستأمرها أبوها"(19)، فاتقوا الله عباد الله، تمسكوا بدينكم واعتصموا به، واحذروا كيد أعدائكم ومكرهم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، وإني مواصل معكم بالخطبة الثانية، نرجو الله - تعالى - أن ينفعنا جميعاً بما سمعنا.
الخطبة الثانية:
فأما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله - تعالى - واشكروه على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام، واسألوه قبول ذلك فإنما المعول على القبول، واعلموا أيها المسلمون أنه وإن كان شهركم ناقص العدد فهو كامل الأجر؛ لأن الله إنما فرض عليكم صوم الشهر وقد صمتموه ولله الحمد، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "شهرا عيدٍ لا ينقصان رمضان وذو الحجة"(20).
أيها المسلمون، إنكم تجتمعون في هذا المكان على طبقات مختلفة ما بين صغير وكبير، وغني وفقير، وذكر وأنثى، فتذكروا بهذا الاجتماع وهذا الاختلاف اجتماعكم يوم الجمع الأكبر يوم القيامة، فذلك والله يوم التغابن، قال الله – عز وجل -: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ [الإسراء: 21].
تذكروا أيها المسلمون، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم ويأخذهم البصر، حافية أقدامهم، عارية أجسامهم، استمع إلى قوله – تعالى -: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 2]، يوم توضع الموازين، قال الله – عز وجل -: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المؤمنون: 102]، أسأل الله - تعالى - بأسمائه وصفاته أن يجعلني وإياكم من هؤلاء، وقال جل ذكره: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾[المؤمنون: 103-104]، أعوذ بالله منها أسأله - تعالى - أن يعيذني وإياكم منها، تذكروا يوماً ينصب الصراط على نار جهنم فتمرون عليه على قدر أعمالكم، فمسلم ناج ومكردس في نار جهنم، من كان مستقيماً في هذه الدنيا على دين الله كان مستقيماً يوم القيامة على الصراط، ومن كان منحرفاً وزائغاً في هذه الدنيا زلت به قدمه على الصراط يوم القيامة.
أيها المسلمون، إنكم بعد اجتماعكم هنا سوف تتفرقون إلى منازلكم، فتذكروا بذلك تفرق الناس من المجتمع العظيم يوم القيامة، قال الله – عز وجل -: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ [الروم: 14-16]. وقال جل ذكره: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان: 24]، أيها المسلمون، تذكروا ذلك واعملوا ما ينجيكم في هذا اليوم.
فالله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم – "أنه إذا خرج لصلاة العيد من طريق رجع من طريق أخرى"(21)؛ لتظهر بذلك شعائر العيد فاتبعوه بذلك فإنه بكم أجدر وأحرى، ولا بأس أن يهنئ الناس بعضهم بعضاً بالعيد؛ لأنه فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولأن التهنئة بالعيد تجلب المودة والإلفة ويحصل بها التزاور والمودة، ولكن لا يهنئ الرجل المرأة إلا أن تكون من محارمه، فإن بدأته هي بالتهنئة وهي من معارفه لا بأس أن يرد عليها إذا لم يحصل بذلك خلوة بها أو فتنة، ولا يصافح الرجل المرأة إلا أن تكون من محارمه، وإن كثيراً من الناس يصافح المرأة من ليس من محرمها؛ لكونه ابن عمها، أو ابن خالها، أو أخا زوجها، أو ما أشبه ذلك، وهذا حرام عليهم، سواء كانوا من الحاضرة أم من البدو لا فرق في ذلك، فلا يجوز لامرأة أن تصافح أحداً بيدها مباشرة إلا أن يكون من محارمها، أما إذا كان من وراء حائل فإنه لا بأس به إذا لم تخش الفتنة، ولا يُقَبِّل الإنسان امرأة على فمها إلا أن تكون زوجته، أما إذا كانت ليست زوجته ولكنها من محارمه، كأمه وأخته فلا بأس أن يقبل رأسها وجبهتها.
وأما زيارة القبور باسم المعايدة فإنه بدعة، لا أعلم له أصلاً في شريعة النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن – صلى الله عليه وسلم – يتقصد الخروج إلى المقبرة يوم العيد، ولا أمر به، وإنما أمر بزيارتها أمراً عاماً في كل وقت، وكان يزورها كلما سنحت له الفرصة، وربما زارها في الليل.
وكان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – وكمال تعليمه وتبليغه، أنه إذا فرغ من خطبة الرجال يوم العيد، توجه إلى النساء، فوعظهن، وخوفهن.
ولنعم النساء نساء الصحابة – رضي الله عنهم -، وعظهن ذات يوم وحثهن على الصدقة، وكان معه بلال – رضي الله عنه -، فجعلن يلقين في ثوب بلال من حليهن، تلقي المرأة خاتمها، والمرأة تلقي قرطها، وخرصها، والمرأة تلقي قلادتها، والمرأة تلقي سوارها، كما في صحيح البخاري.
فيا إماء الله، إنني أتوجه إليكن، كما توجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى النساء، أتبعه في ذلك إن شاء الله، وأرجو الله – تعالى – أن نكون جميعاً لربنا مخلصين، ولنبينا متبعين، وبهديه من المتمسكين.
يا إماء الله، اتقين الله، واحفظن حدوده، وقمن بما أوجب الله عليكن من شرائع دينه، أقمن الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، أكثرن من الصدقة، فإنها تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، اِلْزَمْنَ بيوتكن، ولا تخرجن إلا لحاجة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: "بيوتهن خير لهن"(22)، وإذا خرجتن للسوق لا تخرجن متبرجات بزينة، ولا متطيبات، فقد قال الله – تعالى – لأمهات المؤمنين وهن القدوة: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]، وقال في القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي يئسن من النكاح لكبرهن وعدم الرغبة فيهن – قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: 60]، هكذا يقول سبحانه في حق العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً، فما بالكن بمن تتبرج بالزينة وهي محل الفتنة والرغبة من الشواب؟
ولقد قال سبحانه: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ [النور: 31]، فهل يعقل أن ينهى الله – سبحانه – المرأة أن تضرب برجلها خوفاً من أن يسمع خلخالها الذي لا يرى، ثم تسمح لنفسها أن تبدي ذراعيها بما عليهما من الساعة والحلي؟ هل يعقل أن ينهى الله – سبحانه – المرأة أن تضرب برجلها خوفاً من أن يعلم خلخالها الذي لا يرى، ثم تسمح لنفسها أن تكشف عن ثيابها الجميلة التي تحت عباءتها؟ هل يعقل هذا أيها المسلمون؟ إن ربكم الذي ينهى أن تضرب المرأة برجلها خوفاً من أن يعلم ما تخفي من زينتها، إنما ينهاها عن ذلك وعما هو مثله أو أشد فتنة. وإخراج المرأة ذراعيها المملوءين بالحلي أشد فتنة، ورفع المرأة عباءتها لتخرج ثيابها الجميلة أشد فتنة وأعظم تبرجاً، فيا إماء الله، ويا نساء المسلمات، لا تنخدعن ولا تغركن الحياة الدنيا، وإياكن ومزاحمة الرجال والاختلاط بهم، فإن ذلك من أسباب الفتنة التي حذر منها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولقد أشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى رغبة الإسلام في ابتعاد المرأة عن مزاحمة الرجال والاختلاط بهم، حيث قال – صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ صفوفِ النساءِ أخرها، وشرُّها أولها"(23)، وذلك لأن آخرها أبعد عن الرجال، وأولها أقرب إليهم، فكلما ابتعدت المرأة عن الرجال حتى في أماكن العبادة فهو خير لها.
أيتها النساء، إن بعضاً من النساء يصلن رؤوسهن بشيء، وقد زجر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تصل المرأة بشعرها شيئاً، ولعن الواصلة والمستوصلة، وإن بعضاً من النساء تجمع شعر رأسها فوقه حتى يكون كسنام البعير، وهذا حرام؛ لأنه من فعل نساء أهل النار، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد" – وذكر صنفاً – ثم قال: "ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها"(24)، فاتقين الله أيتها النساء، والتزمن حدود الله، وحافظن على تربية بناتكن على الشيمة والحياء، فإن الحياء من الدين.
ويا أيها الرجال، أنتم قوامون على النساء، والمسؤولون عنهن، قال الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: 34]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته، ومسؤول عن رعيته"(25)، فألزموهن بأحكام الإسلام بالحجاب والحشمة والبعد عن محلات الفتن، فإنكم مسؤولون أمام الله، وأما التأريخ فإذا أهمل الرجل أهله، وأهمل الثاني أهله، وأهمل الثالث والرابع، فسد المجتمع كله؛ لأن المجتمع هو الأفراد، فإذا صلح الأفراد صلح المجتمع، فأصلحوا أنفسكم، وأصلحوا أهليكم، ولا تنخدعوا بما يزينه أعداؤكم في قلوبكم.
أيها المسلمون، إن مكاننا هذا مكان دعاء وخير، وإنني داعٍ فأمنوا بقلوب حاضرة، ونفوس راجية.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله، الأحد الصمد، الحي القيوم، الجواد الكريم، أن تجود علينا بالقبول، والصلاح والإصلاح، وأن تجعلنا في يومنا هذا من الفائزين المفلحين، نفوز بجائزتك، ونفلح برضوانك.
اللهم أتمم علينا نعمتك بالتمسك بدين الإسلام، والاقتداء بنبيك محمد – صلى الله عليه وسلم -، خاتم الرسل الكرام.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يحشرون إليك وفداً، ويفوزون بصحبة نبيهم في دار النعيم، وينعمون بالنظر إلى وجهك الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.
---------------------------------
(1) أخرجه أبو داود في سننه رحمه الله تعالى، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر (1371)، وأخرجه ابن ماجه رحمه الله تعالى في سننه، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر (1817) ت ط ع.
(2) سبق تخريجه في الحديث الأول في نفس الصفحة.
(3) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر (1407)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، في كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (1635).
(4) أخرجه النسائي رحمه الله تعالى، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة (2462) (2466)، وأخرجه الترمذي رحمه الله تعالى في سننه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الفطر (609).
(5) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، في كتاب الأقضية، باب نقص الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3243).
(6)<b><font color="blue"><font face="Traditional Arabic"> أخرجه الإمام البخاري رحمه الل